وسبب ذلك أن أوس بن حارثة بن لأم الطائي كان سيدًا مطاعًا في قومه وجوادًا مقدامًا فوفد هو وحاتم الطائي على عمرو بن هند فدعا عمرو أوسًا فقال له: أنت أفضل أم حاتم فقال: أبيت اللعن! إن حاتمًا أوحدها وأنا أحدها ولو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة.
ثم دعا عمرو حاتمًا فقال له: أنت أفضل أم أوس
فقال: أبيت اللعن! إنما ذكرت أوسًا ولأحد ولده أفضل مني.
فاستحسن ذلك منهما وحباهما وأكرمهما.
ثم إن وفود العرب من كل حي اجتمعت عند النعمان بن المنذر وفيهم أوس فدعا بحلة من حلل الملوك وقال للوفود: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم.
فلما كان الغد حضر القوم جميعًا إلا أوسًا فقيل له: لم تتخلف فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألا أكون حاضرًا وإن كنت المراد فسأطلب.
فلما جلس النعمان ولم ير أوسًا قال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمنًا مما خفت.
فحضر فألبس الحلة فحسده قوم من أهله
فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة.
فقال: كيف أهجو رجلًا لا أرى في بيتي أثاثًا ولا مالًا إلا منه ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ
من أهل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا اهجوه لكم فأعطوه النوق وهجاه فأفحش في هجائه وذكر أمه سعدى.
فلما عرف أوس ذلك أغار على النوق فاكتسحها وطلبه فهرب منه والتجأ إلى بني أسد عشيرته فمنعوه منه ورأوه تسليمه إليه عارًا.
فجمع أوس جديلة طيء وسار بهم إلى أسد فالتقوا بظهر الدهناء تلقاء تيماء فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمت بنو أسد وقتلوا قتلًا ذريعًا وهرب بشر فجعل لا يأتي حيًا يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس.
ثم نزل على جندب بن حصن الكلابي بأعلى الصمان فأرسل إليه أوس يطلب منه بشرًا فأرسله إليه.
فلما قدم به على أوس أشار عليه قومه بقتله فدخل على أمه سعدى فاستشارها فأشارت أن يرد عليه ماله ويعفو عنه ويحبوه فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه.
فقبل ما أشارت به وخرج إليه
وقال: يا بشر ما ترى أني أصنع بك
فقال:
إنّي لأرجو منك يا أوس نعمةً
وإنّي لأخرى منك يا أوس راهب
وإنّي لأمحو بالذي أنا صادق به
كلّ ما قد قلت إذ أنا كاذب
فهل ينفعنّي اليوم عندك أنّني
سأشكر إن أنعمت والشكر واجب
فدىً لابن سعدى اليوم
كلّ عشيرتي بني أسد أقصاهم والأقارب
تداركني أوس بن سعدى بنعمة
وقد أمكنته من يديّ العواقب
فمن عليه أوس وحمله على فرس جواد ورد عليه ما كان أخذ منه وأعطاه من ماله مائةً من الإبل فقال بشر: لا جرم لا مدحت أحدًا حتى أموت غيرك
ومدحه بقصيدته المشهورة التي
أتعرف من هنيدة رسم دارٍ
بحرجي ذروةٍ فإلى لواها
ومنها منزل ببراق خبتٍ
عفت حقبًا وغيّرها بلاها
وهي طويلة
المصدر الكامل في التاريخ الجزء الأول
-----
و أما القصيدة
أَتَعرِفُ مِـن هُنَيـدَةَ رَسَـم دارٍ =بِخَرجَـي ذَروَةٍ فَإِلـى لِـواهـا
وَمِنهـا مَنـزِلٌ بِبِـراقِ خَبـتٍ =عَفَـت حِقبـاً وَغَيَّرَهـا بِلاهـا
أَرَبَّ عَلـى مَغانيـهـا مُـلِـثٌّ =هَزيـمٌ وَدقُـهُ حَتّـى عَفـاهـا
وَما أَشجاكَ مِـن أَطـلالِ هِنـدٍ =وَقَـد شَطَّـت لِطِيَّتِهـا نَـواهـا
وَقَد أَضحَـت حِبالُكُمـا رِثاثـاً= بِطاءَ الوَصلِ قَد خَلُقَـت قُواهـا
لَيالِـيَ لا تَطيـشُ لَهـا سِهـامٌ =وَلا تَرنو لِأَسهُـمِ مَـن رَماهـا
وَمَومـاةٍ عَلَيهـا نَسـجُ ريــحٍ =يُجاوِبُ بومَهـا فيهـا صَداهـا
فَلاةٍ قَـد سَرَيـتُ بِهـا هُـدوءاً = إِذا ما العَينُ طافَ بِهـا كَراهـا
بِصادِقَـةِ الهَواجِـرِ ذاتِ لَـوثٍ =مُضَبَّـرَةٍ تَخَيَّـلُ فـي سُراهـا
إِلَيكَ نَصَصتُهـا تَعلـو الفَيافـي = بِمَومـاةٍ يَحـارُ بِهـا قَطـاهـا
عُذافِرَةٍ أَضَـرَّ بِهـا اِرتَحالـي = وَحَلّـي بَعـدَهُ حَتّـى بَـراهـا
أَشُـجُّ بِهـا إِذا الظَلمـاءُ أَلقَـت = مَراسِيَهـا وَأَردَفَـهـا دُجـاهـا
إِلى أَوسِ بـنِ حارِثَـةَ بـنِ لَأمٍ = لِيَقضِيَ حاجَتـي وَلَقَـد قَضاهـا
فَما وَطِئَ الحَصى مِثلُ اِبنِ سُعدى = وَلا لَبِـسَ النِعـالَ وَلا اِحتَذاهـا
إِذا ما المَكرُماتُ رُفِعـنَ يَومـاً = وَقَصَّرَ مُبتَغوهـا عَـن مَداهـا
وَضاقَـت أَذرُعُ المُثريـنَ عَنـه=سَمـا أَوسٌ إِلَيهـا فَاِحتَـواهـا
نَمى مِن طَيِّئٍ فـي إِرثِ مَجـدٍ = إِذا ما عُدَّ مِـن عَمـرٍو ذُراهـا
وَأَضحى مِن جَديلَةَ فـي مَحَـلٍّ= لَـهُ غاياتُهـا وَلَــهُ لُهـاهـا
نَمَوهُ في فُـروعِ المَجـدِ حَتّـى= تَـأَزَّرَ بِالمَـكـارِمِ وَاِرتَـداهـا
غِيـاثُ المُرمِليـنَ إِذا أَناخـوا= بِهِ فـي اللَيلَـةِ الغالـي قِراهـا
لَـهُ كَفّـانِ كَـفٌّ كَـفُّ ضُـرٍّ = وَكَفُّ فَواضِـلٍ خَضِـلٌ نَداهـا
إِذا ما شَمَّـرَت حَـربٌ عَـوانٌ= يَخافُ النـاسُ عُرَّتَهـا كَفاهـا
يُجيـبُ المُرهَقيـنَ إِذا دَعَــوهُ = وَيَكشِفُ عَن أَطاخيهـا دُجاهـا
بَخيلٍ تَحسِـبُ الزَفَـراتِ مِنهـا= زَئيـرَ الأُسـدِ مَشـدوداً قَراهـا
بشر بن ابي خازم الأسدي
شعراء العصر الجاهلي