غزو قبيلة عنزة على قافلة انجليزية و دور محمد بن عروج بفك الغزو
نهاية كانون الأول من عام 1879م كانت الليدي آن بلنت(1) و زوجها(2) على موعد مع أخيهما البدوي التدمري محمد العبدالله العروج(3) ليقود القافلة من دمشق إلى شمال الجزيرة العربية مروراً بوادي السرحان، والجوف حتى مدينة حائل معقل الأمير محمد بن عبدالله آل رشيد، وقد جمعت مشاهدات الرحلة في كتاب جميل بعنوان: ((رحلة إلى نجد)) فيه مشاهدات حية ووصف صادق جميل وطرائف من أدب الترحال لا يضاهيها سوى كتاب ((قبائل بدو الفرات)) الذي وضعته لوصف أحداث رحلتها الشمالية.
ويبدو أن الطريق التي سارت بها هي الطريق نفسها التي سلكها بالجريف عام 1862م وشتّان ما بين إدعاء بالجريف وما شاهدته الليدي بلنت ووصفته من حيث الصدق والموضوعية، ولهذا صنّفت الرحالة بلنت في سجل الرحّالة الشجعان في بلاد العرب، إذ لم يثنها الخوف من الغزاة في البادية عن المضي قدماً في تحقيق أهداف الرحلة، وقد وقعت فعلاً في كمين نصبه لها في الطريق إبن ضبّاع من بدو الرولة من عـنـزة.
ففي مطلع كانون الثاني عام 1880م كانت القافلة تسير في الطريق إلى الجوف، ولأول مره تقترب القافلة وتخيّم بالقرب من الآبار التي كانت تروي المسافرين في الطريق، فبعد إرتواء الرواحل من الماء وملىء القرب إنعطفت القافلة نحو الشرق يقودها إبن عروج بحراسة بعض رجاله وسلاحهم بأيديهم، فسارت في كثبان رملية تتناثر فوقها شجيرات الغضا هنا وهناك، ولعل إنبساط الأرض، وتوفر الطرائد أغرت الليدي وولفر بالإبتعاد عن القافلة بإتجاه الأمام، فآووا إلى ظل شجرة توقفا عندها وربطا الخيل في جذعها وجلسا لتناول لقيمات من الطعام، بينما أخذت الكلاب السلوقية تمرح حولهما ..
ولم تعد تدري الليدي بلنت ماذا حدث: ضجّه ووقع خيل تعدو بإتجاههم .. فصاح ولفر هذا غزو هيا نركب! فزحفت الليدي بين الأشجار بإتجاه الخيل المربوطة وإذ بالفرسان يشرعون الرماح ويندفعون بأقصى سرعة، وعندما وصلوا إلى بعد مئة ياردة ركب ولفرد بينما عجزت الليدي بلنت عن الركوب لقد كانت تعاني من آلام ركبة مرضوضة، وغاصت قدماها في الرمل ولما حاولت الركوب سقطت، فكان الغزو فوقهم فصرعوها بضربة، وأحاطوا بولفرد حيث أمسكوا بعنان فرسه، فتفقد البندقية فوجدها غير محشوه بالرصاص، بينما بندقية القتال كانت على الراحلة في القافلة، وإنهال الضرب عليه من كل جانب، ولعل الثياب التحتية هي التي حالت بين رؤوس الرماح وجلده، فتناولوا بندقيته وكسروها فوق رأسه، فبدت المقاومه عديمة الجدوى، فصاحت الليدي: ((أنا دخيلكم أنا في حمايتكم)) بينما ولفرد يجتمع عليه إثنا عشر فارساً ولهذا رمى نفسه أرضاً وإستسلم، ومضت لحظات لإلتقاط الأنفاس .. .. ..
ثم بدأ الإستجواب: من أنتم؟ من أين جئتم، فأجابوا نحن من الإنكليز الرحالة. جئنا من دمشق، وقافلتنا قادمة، و رويدكم لتسمعوا ما تريدون، بينما توقف محمد بن عروج عن بعد ورتب الإبل على شكل مربع وإتخذ وضعاً دفاعياً يصعب على المهاجمين إختراقه خصوصاً وأنه يتسلّح بأفضل بندقية. إقتادوا الليدي وزوجها بإتجاه القافلة، فخرج إليهم محمد العبدالله العروج لمقابلة قائد الغزو فتبيّن له أنهم من فخذ الرولة من قبيلة عـنـزة والعقيد هو إبن ضباع .. والله، وقالوا من أنت؟ فقال محمد بن عروج من أصدقاء إبن شعلان أمير الرولة،، وسطام بن شعلان كان قد منحهم حمايته في العام الماضي.
قام إبن ضباع بإعادة كل ما سلب منهما: الخيل والبنادق وحتى كيس الدخان، بينما تحسّر بعض الرجال لأن الخيل والبنادق كانت كسباً لا يعوّض .. وإعتذر لليدي بلنت بشدة كونهم قد ضربوا إمرأة فليس من الشيمة العربية ضرب إمرأة ولكن ثيابها كانت توحي بأنها رجل.
تُركت القافلة تسير في طريقها إلى الجوف، فعبّرت الليدي عن شعورها بعد الحادثة بهذه الملاحظات: ((بالرغم من خشونة التعامل في البدء، ولكن وجدنا فيهم رجالاً من أنبل الرجال .. لقد شعروا بالعار لأنهم إستخدموا حرابهم ضدي كإمرأة .. فالثياب التي كنت ألبسها أوحت إليهم بأني رجل، لقد تبودلت الإعتذارات والتحيات وهكذا ودعنا إبن ضباع وتركنا نذهب. ذهب الرولة الغزاة، فقمنا بإحصاء ما لحق بنا: جروح ولفرد كانت رضوضاً فقط، فالرماح لم تخترق ملابسه الكثيفة بشكل كاف، واللفافة التي كانت على رأسه تلقت وصدّت كل الضربات، وبالرغم من أن خشب البندقية قد تكسّر فوق رأسه إلا أن رأسه كان سليماً والحمد لله. أما أنا فلا جديد في حالتي قبل الغزو سوى زيادة في الإلتواء .. أما رفيقنا محمد العروج فكان مطأطىء الرأس، بسبب عدم قيامه بالحمايه، وبالرغم من أنه تحصّن بالقافلة، إلا أن مثله الأعلى في الفروسية لم يتحقق هذه المرّه، ويبدو أن نذراً كثيرة قد نذرت من قبل رفاقنا، ولهذا سوف تكون عندنا وليمة في الجوف من أجل السلامة عندما نصل هناك)).
---------------------------------
(1) الليدي آن بلنت 1837-1917م رحّاله بريطانية شابّه.
(2) زوجها ولفرد سكاون بلنت.
(3) محمد عبدالله العروج من آل كثير من بني لام من قبيلة طيء، مرافقهما المخلص والذي أنقذهما بالسابق من غزو بدو شمر، ومن غزو الرفدي من العمارات، وأعتبرته الليدي بلنت و زوجها بمثابة أخاهم البدوي الشجاع.
المراجع:
1- ((رحلة إلى نجد)) ترجمة محمد أنعم طالب، دار اليمامة ط2، 1978م.
2- نساء على دروب تدمر، د. عدنان البني.
3- ((قبائل بدو الفرات)) الليدي آن بلنت (الرحلة الجنوبية).
|