المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غريب في ديار قومه


المظهري اللامي
08-09-2009, 05:40 AM
غريب في ديار قومه: عبد الله بن خليفة الطائي بين الجبلين




لم يكن من المنتظر أن يمر حادث استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة سنة أربعين للهجرة المباركة دون أن يخلف وراءه أصداء كبيرة في حياة الأمة الإسلامية، وقد كان؛ إذ تداخلت الأحداث السياسية من بعده على نحو متلاحق، أدى إلى صيرورة الكوفة في يد معاوية بن أبي سفيان الذي أضجره كثيراً مشايعة هذه المدينة لعلي رضي الله عنه، ولذلك جلس منذ بداية عهده بها- فيما نُقل- "يبايع الناس على البراءة من علي."(1) ثم تركها في ولاية المغيرة بن شعبة، الذي توفى سنة خمسين للهجرة، ليخلفه عليها زياد بن أبي سفيان، وقد اشتط الأخير هذا على الكوفيين و "أخذهم أخذاً شديداً"(2).
وقد واكب كل ذلك بُغْضٌ كان كامناً في نفوس الكوفيين للأمويين؛ بسبب ما أحدثوه من تحويل الخلافة منها إلى دمشق، فضلاً على ما هو معروف من أن هذه المدينة كانت مقر علي وشيعته، فكان كل ذلك باعثاً على تلاحق الثورات الكوفية المعلنة في وجه الحكم الأموي (3).
لقد كان من أهم ما أشعل نار هذه الثورات أن الأمويين كانوا يسعون إلى تبغيض الكوفيين في علي رضي الله عنه بوسائل شتى، كان منها لعنُه على المنابر، وشتمه بشتائم كانت- على حد تعبير أستاذنا الدكتور يوسف خليف- "هي الزيت الذي يسكبه معاوية على هذه الجذوة، فازداد اشتعالها وتوقدها. فغضب أحد شيعته المخلصين حجر بن عدي الكندي، وأعلن على الملأ غضبه، وأخذ يتحدى المغيرة، ووجدت غضبته آذاناً صاغية من الكوفيين، واستجاب له أكثر من ثلثي الناس. ويبلغ زياداً أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه. فيشخص إلى الكوفة، ويصمم على القضاء على هذه الفتنة، فيرسل إلى حجر "الشُرط والبخارية" فيقاتلهم حجر بمن معه، ولكنهم ينفضون عنه، ويُعتقل حجر، ويُرسَل إلى السجن، ثم يُبعث به هو وأصحابه إلى معاوية، فيأمر بقتلهم إن لم يتبرءوا من علي ويلعنوه."(4) ولكنهم يأبون إلا الثبات على مبدأهم، فيقتلون.
وبدهيُّ أن يكون لكل ذلك صداه المُرِنُّ في عالم القصيد لدىَ الشعراء المشايعين، وذلك على النحو الذي يقترب على الأقل من مستوى الأحداث، وقد كان، إذ تحمل إلينا بعض صفحات تاريخ الطبري- مثلاً- رجزاً لقيس بن قهدان الكندي، يحث قومه على تأييد حجر، عازفاً فيه على وتر قبلي، يشير إلى الوضع الذي عاشه هؤلاء تحت ظلال الدولة الأموية، كما تحمل هذه الصفحات شعراً لهند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية ترثي حجراً، ولامرأة أخرى كندية تبكيه.(5) وهو شعر باك حزين، ينبض بعمق ضراوة هذا الحدث على نفوس أصحابه.
وقد كان عبد الله بن خليفة الطائي على رأس الحضور في ساحة هذه الأحداث، بمعالجته لمواقفها، وتأثره بنتائجها على النحو الذي جعله مطَّرحاً في الغربة، ليخلف لنا مطولة ذات حظ عظيم، من حيث إثارتها لجوانب عديدة لها دلالتها في ميدان الدرس الأدبي، وذلك بما حظيت به من أصالة فنية، وبما أعلنت عنه من اتساع في الطاقة الشعرية لاحتواء كل ما يمور في النفوس من معانٍ ورغبات متناوحة، وبما أوحت به من الاقتدار الشعري الذي يمكن لصاحبه من توظيف المفردات الفنية، واستغلال الصور التاريخية والفنية القديمة، والانتفاع الذكي بالموروث الشعري على نحو فاعل.
لقد كان الموقف الذي عاشه الشاعر، والتجربة التي خاضها من الحال بحيث يجعل الطاقة الشعرية متفجرة، ثم كان الفراغ الذي عاشه هذا الشاعر منفياً داعياً إلى إطالة النفس، بحيث صارت القصيدة مطولة أو كادت.
يضاف إلى ذلك أن الشاعر- على ما تنطبق به الأخبار- كان يعرف الكتابة، يستفاد ذلك مثلاً من حرص الطبري على النص على أن الشاعر كان يكتب تأمَّل إلى عدي بن حاتم سيد قومه، وعدي يعده بالعمل على إعادته من منفاه، ويمنِّيه.(6)
والأخيرة هذه تضع يدنا على كثير من أسرار الجودة التي حظيت بها القصيدة موضوع حديثنا، إذ قدم الشاعر من خلالها صورة شعرية أخذت من الصدق أعلاه، ومن الحيوية أطغاها، مما يعني أنه أفاد من قدرته على الكتابة في عملية تنقيح عمله الشعري وتجويده.
والشاعر هو: على ما تنص ترجمته التي احتوت عليها دراسة: "شعر طيئ وأخبارها في الجاهلية والإسلام (7) عبد الله بن خليفة البولاني، أحد بني بولان، وبولان هو غضين بن عمرو بن الغوث بن طيء، له إدراك، وذكر ابن حجر أنه أسلم بالقادسية، كان شيعياً شاعراً خطيباً، شهد مع علي صفين، وكان يستنفر طيئاً على الجهاد. ولما كان أزمان حجر بن عديٍّ طُلب عبد الله بن خليفة؛ ليبعث به مع حجر سنة إحدى وخمسين للهجرة، وكان من أصحابه، فسُير إلى الجبلين، ومات هناك قبل موت زياد." أهـ.
وتتزاحم الأخبار في التأكيد على مناسبة هذه القصيدة، ذات الحظ الوافر من الأصالة الفنية، والإحكام الشعري، إذ كانت الثورة التي تزعمها حجر بن عدي الكندي- على قصر زمنها- قد استقطبت عدداً كبيراً من الناس، كما كانت ذات صدى واضح في عالم القصيد، وذلك أن النصير الذي خام، وأبعط (نكص على عقبْيه، وفَرّ هرباً) ساعة احتدام الكرب أكله الندم، فأخذ ينظر إلى حجر وأصحابه الشهداء نظرة مترعة بالشجى والشجن؛ إذ كان حجر قد صرخ في وجه الدولة الأموية بما تنطوي عليه نفس كل كوفي.
وفي تاريخ الطبري حقيقة الموقف، وما ينص على أن زياد بن أبي سفيان بعد أن رأى شدة حجر ومن معه في الدعوة لآل البيت، والثورة على بني أمية اشتد حتى تمكن من حجر وبعض أصحابه، وكان البعض قد فر إلى الجبال، من مثل عمرو بن الحمق، ورفاعة بن شداد اللذين أتيا المدائن، ثم ارتحلا إلى أرض الموصل، فكمَنَا في بعض جبالها(8).
أما شاعرنا عبد الله بن خليفة الطائي فقد امتنع بقومه؛ إذ كانوا بالكوفة كُثْراً، ولهم بأس وقوة، وعليهم شيخ مثل عدي بن حاتم، وهو من هو: هو حامي القربة، ومانع الماء يوم رويه، وابن ذي المرباع جواد العرب، وهو قبل ذلك كله وافد قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورئيس قومه يوم النخيلة وجلولاء، والقادسية، ونهاوند وتُستر(9).
ولا يستخفنك تصور عيش عدي بن حاتم في العصر الأموي إلى التقليل من قيمة ما ذكرنا له من صفات ترسم له الشأن والمكانة؛ فقد كانت الدولة إذ ذاك قبلية، تصدر عن العصبية القبلية، أكاد أقول الخالصة(10).
وننصت سوياً لما يسوقه الطبري في هذا المجال: "فقال أبو مخنف: وقد كان عبد الله بن خليفة الطائي شهد مع حجر بن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إليه الشرط. فخرجت أخته النوار، فقالت: يا معشر طيء، أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ فشد الطائيون على الشرط فضربوهم، وانتزعوا منهم عبد الله بن خليفة، فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فوثب على عدي بن حاتم وهو في المسجد، فقال: ائتني بعبد الله بن خليفة. قال: والله لا آتيك به أبداً. أجيئك بان عمي تقتله؟‍! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتُهُمَا عنه.
قال: فأمر به إلى السجن، قال: فلم يبق بالكوفة يماني ولا بعي إلا أتاه وكلمه، وقالوا تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فإني أخرجه على شرط، قالوا: وما هو؟ قال: يخرج ابن عمه عني، فلا يدخل الكوفة مادام لي بها سلطان، فاتى عدي فاخبر بذلك، فقال: نعم، فبعث عدي إلى عبد الله بن خليفة، فقال: يا ابن أخي إن هذا قد لج في أمرك، وقد أبى إلا إخراجك عن مِصرك مادام له سلطان، فالحق بالجبلين."(11)
ويبدو أن تنامي الأحداث كان على النحو الذي لا يمكن عدي بن حاتم من العمل على إعادته مرة أخرى؛ إذ جعل "عبد الله بن خليفة يكتب إلى عدي، وجعل عدي يمنّيه"(12) حتى طال الأمر على الشاعر فكتب هذه القصيدة.
واللافت هنا هو أن الشاعر وإن كان قد أُبعد فإنه قد أُبعد إلى ديار قومه وأجداده، ولكن ما تكون الديار بدون أهل أو عشيرة، ومن هنا كان شعور الشاعر بالغربة حاداً، وكانت لهفته إلى دفء العيش بين الأهل قاتلاً ماحياً لكل تماسك الرجولة، ثم كان تراكم هذا الشعور مواكباً للشعور بخذلان الأهل له عاملاً على تشكيل محنةٍ قوية، وضعته في تجربة نفسية عميقة الأثر.
ولا يجد المكروبون من الشعراء أمثاله منفذاً للبوح والشكوى؛ تخففاً من الأثقال إلا في سكب الآلام المضطرمة في قالب شعري، يترجم نفثه المصدور، ويعكس أنَّة المحزون، ونزْوَرُّ بهذا الطرح عن النص على أن حنين الشاعر قد كان إلى الكوفة خاصة. وأن ذلك كان "يملك عليه كل مشاعره، ويثير فيه أعمق الانفعالات، بل كان هو العاطفة الأساسية التي سيطرت على قصيدته."(13)
وذلك أن الشاعر لم تكن تعنيه الكوفة كدار، بل كأهل وعشيرة، ومُهاجَر، فميله النفسي كان إلى القبيلة والعشيرة، وميله الفكري كان إلى الشيعة ولو كان الأمر مجرد حنين إلى وطنه، فهو في داره الأولى دار قومه وأجداده فإن حنّ إلى منزل فسوف يكون هذا الحنين إلى أول منزل ولم تحمل بعض أبيات القصيدة- وهي بين أيدينا اليوم- إشارة ولو من طرف خفيّ إلى الكوفة كوطن تهفو إليه نفس الشاعر. بل إن الشعور بالوحدة والوحشة والشوق إلى الأهل هو الذي يطل برأسه في كل مفردة أو مقطع صوتي منها، في مقابل أن الكوفة تصير كُوَيفْةَ.
جعل عبد الله بن خليفة يكتب إلى عدي وكان مما كتب- وهو آخر ما كتب فيما يبدو- هذه القصيدة التي نقل بها الشعر الكوفي إلى" المجال الفسيح عن طريق المزج الفني الرائع بين الصور القديمة الموروثة والصور الإسلامية الجديدة."(14)
والقصيدة(15) بعد من ستة وخمسين بيتاً، خصص الشاعر منها ثلاثة أبيات كانت بمثابة المقدمة، وسبعة وعشرين بيتاً جعلها للندب والتفجع، وتأبين حجر وأصحابه الشهداء، ثم جعل بقية الأبيات للعتاب الحارق، والشكوى، وإعلان الضجر من خذلان الأهل وتخليفهم إياه في كربة الغربة، وعلى ذلك فالقصيدة على ذلك تسودها عواطف متناوحة، أعلاها الحزن والشجيّ فناسب أن يصبها الشاعر في قالب وزني يجمع الجلال إلى المهابة، بما فيه من طول وتؤدة في الحركة والنغم، ومن اتساع لاحتواء المعاني، وهو بحر الطويل الذي شاع استخدامه في الشعر العربي القديم.
وثقل الإحساس بالحاضر الذي جثم بأرزائه على صدره، وقتامة ذلك أسلمه إلى اختيار قافية مطلقة، هي بمثابة الصرخات المدوية ذات الصدى المرن، إذ يريدها أن تعبر الفجاج حتى تصل إلى سمع عديّ بن حاتم حاملة معها حرارة اللهب الذي يعتمل أواره في الأعماق.
والقصيدة رائية، والراء من الأحرف التي تناسب جو الحزن، الذي سيطر على الشاعر، وذلك بتردده كمقطع صوتي على طرف اللسان حال النطق به، إذ يتولد من ذلك ما يقارب الصدى، الذي يشبع الإحساس بالحسرة، فيظل مجدداً للجراح، مذكراً بها.
وتبدأ القصيدة- بعد المقدمة- بمقطع الرثاء والبكاء، ومنه تطل صورة الصدق، ذلك أنه يبكي فيه إخواناً خلصاً، ينتمي إليهم فكرياً، وإلى أغلبهم قبلياً، وفي كربة الغربة لا يجد الغريب واحة يشعر بالعيش فيها بعض لحظات بالراحة إلا واحة الماضي، التي تحمل إليه صورة أحبابه، وأيام العيش السعيد التي انصرمت، إذ التذكر في هذا الموقف يكون شيئاً من التطبب، أو لمع ضوء وسط ظلامٍ في ليال يتمطى فيها السهاد بصلبه، فينوء بالغريب، وإن كان من أولى القدرة على الصبر والتحمل.
لذلك كله ترى الشاعر يبدأ القصيدة كلها بتذكر ليلى والشبيبة، وهي مقدمة تقليدية لكنها دالة، إذ أرادها الظاهر الفني غزلاً، وأرادها الشاعر أن تكون ترجمة للتَّملْمل النفسي، والشعور بالضياع والفقد الذي كان يرزح تحت وطأته، أو قل إنه يمارس معنا لعبة فنية، يبدو فيهل كالذي يبني قصراً من الرمال، مطلقاً للآمال العنان، ثم يجعل هذه الآمال تنحسر إلى حد التلاشي والضياع. يصنع الآمال. ثم بيده يهدمها. ولذلك هو يتذكر الصبا وليلاه، ثم يرجع، فيرى أنه شق على نفسه؛ فذلك وجدٌ بما قد أدبر، فليدع ذا، وليتسل عنه؛ انشغالاً بالبكاء، بكاء من ماتوا، والبكاء على نفسه:
تذكَّرتُ ليلى والشبيبةَ أعصُراَ *** وذِكْرُ الصبا برحٌ على من تذكَّرا
وولىَّ الشبابُ، فْفتَقدْتُ غصونَه *** فيالك من وجْدٍ به حين أدْبرا
فدع عنْكَ تذْكار الشباب وفقدَه *** وآثارَه؛ إذْ بان منك فأقصرا
وبكِّ على الخلاّن لما تُخُرِّمُوا *** ولم يَجدوا عن منهل المَوتِ مصْدَرَا (16)

هكذا تحمل إليك الأبيات عبق البادية وسحنة الفن القديم، فالمنهل والمصدرـ مثلاً- من الصور القديمة، التي ألفنا رؤيتها في الشعر الجاهلي، والأسلوب التجريدي (فدع ذا، عد عن ذا، إلخ) يلجأ إليه الشاعر هنا بعد أن صاغ خلاصة موقف غزلي في عجالة؛ ليمتطي صهوته، منصرفاً إلى ما هو أوجب، إلى بكاء الخلان الذين تُخُرموا، لا عن عجز وخور، بل عن غير ذلك تماماً.
والأبيات بعد ذلك تحمل النص على أنهم كانوا الشيعة والموئل، ومن وراء ذلك الإشارة إلى نفض اليد من كل ولاء للقبيلة، التي نكص رجالها عن إغاثته، والسعي إلى إرجاعه، فانفرد به شعور بالوحدة كاد يفري كبده. كأن الشاعر يرد على ما تصوره من خذلان الأهل بإعلان الانتماء إلى الخلان الذين تخرموا خاصة. إذ لابد مما ينتسب إليه، احتماء به من ويلات الشعور بالغربة ولسوف نرى قريباً أن ذلك كان من أحاديث المهمومين لا أكثر.
ويرينا الشاعر أن الوطن في مخيلته لا يعني مجرد الأرض بكل معاهدها، ولكنه يكون حيث يكون الانسجام مع القوم والأنس بالعيش وسطهم، وكما يقولون: يكاد المريب يقول. إذ هو فيما أتصور ربما دار في خلَده أن حنينه وهو في ديار قومه وأجداده إلى بقعة أخرى قد يكون منكوراً عليه، فهو يسرع بمواجهة هذا الإنكار، قبل أن يبزغ في نفسي ونفسك، بإعلان أن نفسه هو ما غدت تشتهي شيئاً ولا أحداً، ولا تهوي التعلل بشيء بعد هؤلاء الخلان، فإن عاش بعدهم فلن يكون هذا العيش إلا على ذكراهم وتلك حالة من الاغتراب النفسي الحاد، تولدت من فراق الخاصة من الأحبة، برحيلهم عن الحياة ولها نماذج كثيرة مرصودة في تراثنا الشعري القديم(17).

وبكِّ على الخلاّن لما تُحُرمِّوا *** ولم يجدوا عن منْهل الموت مصدرا
دعتْهم مناياهم، ومن حان يومُه *** من الناس فاعلم أنَّهُ لن يُؤخرا
أولئك كانوا شيعة لي وموئلاً *** إذا اليوم أُلْفَى ذا احْتِدام مذكّرا
وما كنتُ أهوي بعدهم متعللاً *** بشيء من الدنيا ولا أن اعمرا
أقول: ولا والله لا أنسى أدِّكارهم *** سجيس الليالي، أو أموت فأقبرا (18)

وينطلق الشاعر إلى بكاء حجر وأصحابه، متحللاً من قيد الخوف ومن سطوة السلطان، فهو بعيد حيث لا تطاله يد زياد بن أبيه، ومن هنا أفسح المجال لشاعريته، حتى تشكل لنا هذا البكاء الإسلامي النغم، والذي لا يتنكر للتراث القديم، بل يمتح منه، موظفاً صوره القديمة (19) بعد مزجها بالصور الجديدة في خلق فن جديد جميل.
ففي المقطع الذي خص فيه حجراً بالبكاء تراه بعد أن ذكرك بالدعاء للقبور بالسقيا (وذلك اتجاه قديم) يستنزل على قبره سحائب الرحمات، جزاء مَا أرضي ربه وأعذر إليه. ثم يلجأ إلى ندائه في قبره، ليطرح استفهاماً تقريرياً صارماً، لا يدع مجالاً لإنكار ما كان عليه حجر من شجاعة في الحق، وصمود إيماني أمام الطغيان، طغيان المتهضمين لحقوق المسلمين، وما كان عليه من عمل جاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي مناداة الميت في قبره بلا شك إلماع بحياته الكائنة في الصدور:

على أهل عذراء السلام مضاعفاً *** من الله، وليُسْقَ الغمام الكنهورا
ولاقى بها حجرٌ من الله رحمة؛ *** فقد كان أرضي الله حجرٌ وأعذرا
ولا زال تهطالٌ ملثٌّ وديمةُ *** على قبر حجْر أو يُنادى، فيُحشرا
فيا حجر من للخيل تَدْمَي نحورُها *** وللملِكِ المُغْزِي إذا ما تَغَشْمرا
ومن صادع بالحقّ بعدك ناطق *** بتقْوى، ومن إن قيل بالجورِ غيَّرا
فنعم أخو الإسلام كنْتَ، وإنَّنِي *** لأطمع أن تُؤْتَي الخلود وتحُبْرا
وقد كنتَ تعطي السَّيف في الحرب حقّه *** وتعرف معروفاً، وتُنْكِر مُنْكَرا (20)

وواضح هاهنا أن طغيان الشاعرية وأصالتها قد أحالت الحديث عن حجر في هذا المقطع ذا شجن عاطفي فائق الروعة، إذ استرفد الشاعر فيه الأسلوب القديم البعيد عن التأثر بالعربية المولدة التي كانت آخذه بالظهور لعهده، كما استرفد الأسلوب الإسلامي الجديد؛ ليحكم التعبير بكل ذلك عن الصدع النفسي الذي أحدثه في نفسه خذلان الأهل له.
ولعلك تسأل: أكان الهدف من القصيدة الرثاء حقاً، أم كان الهدف الرئيسي هو شكوى الغربة ؟ وأقول لك: كان الهدف هو شكوى الغربة والاستنجاد من ويلاتها، وكان الرثاء وسيلة من وسائل التعبير عن ذلك.
فذكريات تخلي الأهل عنه أشعرته نفسياً بالحاجة إلى التكلم عمن كانوا لا يخذلونه، ويجدُّون في العمل على إعادته بينهم لو كانوا أحياء يرزقون فهو لذلك بعدهم لا يهوي متعللاً بشيء؛ إذ لا يجدي، وهو لذلك أيضاً لا ينسى ادِّكارهم سجيس الليالي، وعليه فليست ذكريات حجر ومن معه هي التي أثارت "في نفسه ذكرى تخلى قبيلته عنه."(21).
ولذلك تراه في المقطع التالي والذي يبكي فيه أصحاب حجر، يفرد كل واحد منهم ببكاء، ربما استكثاراً للأحبة والأهل، حين عزوا وافتقدوا، واجتوت النفس كل شيء، حتى ديار الآباء والأجداد.
قل: إنه الإحساس بالحاجة إلى دفء العيش بين العشيرة، وقد استطاع أستاذنا الدكتور يوسف خليف أن يفتض بكارة النبع بمهارة حين قال عن حديث الشاعر كله: إنه كان " حديثاً قبلياً يسيطر عليه الإحساس بالقبلية (22). "فهو في الرثاء يبحث عن القبيلة النصير، وكذلك أبداً تكون حال البائس المكروب". لا يرى سبيلاً للبقاء والنماء، والانتعاش في هذا المحيط إلا بالتماس الحامي الذي يلقي بردته"(23) وليس من قبيل اتفاق المصادفات مثلاً أن ينادي أصحاب حجر وهو يبكيهم، فإذا هم من طيء أو على الأقل ينتمون إلى جذورها.
لقد لجأ الشاعر فيما يبدو إلى هذا الرثاء بعد أن كتب، وكتب فإذا هو كالذي يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد:

فيا أخوينا من هُمَيْم عصُمِتْمُا، *** ويُسّرتُما للصالحات فأبشرا
ويا أخويّ الخند فيّبن أبشرا، *** فقد كنتما حيّتما أن تبشّرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالب *** وشيبان لقيتم حساباً ميسّرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم *** حجاجاً لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم ما لاح نجم وغرّد الـ *** حمام ببطن الواديين وقرقرا (24)

ويبدأ الشاعر حديثه العاتب بجملة: " فقلت " وقد بدأ من قبل حديثه في الرثاء بجملة: " أقول "، وذلك فيما يشبه إعلان الحضور الذاتي رغم تراكب الكربات، واصطلاح الأرزاء عليه، وفي المغايرة في الصياغة من المضي إلى المضارعة بين الموقفين، بجعل المضارع في مفتتح حديثه عن أصحاب حجر، والماضي في مفتتح حديثه إلى قومه إيماء منه إلى أنّ حديثه عن أصحاب حجر سيظل متجدداً قائماً وقد عضد ذلك بقوله:

ولا والله لا أنسى ادّكارهم *** سجيس الليالي، أو أموت فأقبرا

وبقوله:

سأبكيكم ما لاح نجمَُ وغرّد الـ *** حمام ببطن الواديين وقرقرا

وأن الملل قد أصابه جراء استنجاداته التي لم تكن ذات جدوى في الماضي الذي عاشه في المنفى، ولكنه مع ذلك غير آيس، فهو يحاول ألإنسراب إلى نفوس القوم من خلال العزف على الوتر القبلي، إذ خاطب فيهم غوث بن طيء (الجد الأكبر) باستفهام تقريري يحمل بعض الإنكار لسكوتهم على تسييره إلى الجبلين، ثم يعقب ذلك بالتحضيض على العمل على إعادته، بما ذب عنهم في الماضي، ومن قبل ذلك بأخوته لهم، ثم يضع أمام أعينهم صورة لنكوصهم المخزي، وتخليفهم إياه كأنه ليس منهم: ففرجتم عني. ويعقب ذلك بالإستفهامات التقريرية التي تذِّكر بالفعال التي لا ينهض بها إلا من كان مثله:

فقلت- ولم أظلم- أَغوثَ بن طيء *** متى كنتُ أخْشى بينكم أن أسيَّرا
هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم *** وقد ذب حتى مال ثم تَجَوَّراَ
ففرجتم عني فغودرت مسلماً، *** كأني غريب في إياد وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارة، *** ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا ؟
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلّصت *** وأوضع فيها المستميت وشمّرا ؟ (25)

وكما ترى فإن الصورة مهتاجة، تحمل صورة من اهتياج نفس الشاعر؛ إذ ترى في مقاطعها لوحة البأس المصحر، والحرب المشتعلة المحتدمة الأوار وهي لوحات بدوية قديمة يوظفها الشاعر في ترجمة هذا الاهتياج.
ويعمد الشاعر إلى شيء من التلطف؛ بوضع صورة مؤثرة لشأنه وحاله في دار الغربة، متخذاً من الضغط إلى مقاطع بعينها سبيلاً للتأثير فيهم: فها أنذا بأجبال طيء طريداً. وقد ترى أن كلمة "طريداً" ها هنا لا تفيد جديداً وهي كذلك في الظاهر، لكن إيحاءها بعظيم كربه يتولد من أمور شتى، أعلاها صوت النون الذي ولده التنوين فهو، بمثابة الناقوس المنذر بالخطر خطر سكوت القوم عنه، وتخليفهم إياه، وهو ما نتمثله في قوله: "نفاني عدوي ظالماً لغير جنابة. كأن لم يكونوا لي قبيلا."
ثم يعمد الشاعر بعد إثارة النفس على هذا النحو إلى تحريك العقل؛ دعوة منه إلى التبصر والتأمل؛ وإعمال الخاطر في كيفية ترتب النتائج على المقدمات، فهو إن نُفي، وأعان النفيَ عليه عصرُ التخبط (فيما زعم) ، وتولى الجمع العظيم عنه، فإن ذلك على هَوْله لم يكن لينشئ في نفسه تصور أن يصير متغرباً، يدعو على من تَحَزَّب عليه باللعنة، مكرراً هذا الدعاء: لحى اللّه، لحى اللّه.
وتكرار هذا الدعاء ذو قيمة نفسية فنية، إذ هو تردد بشكوى الحال على أذن المتلقي إذ ذاك، علّه يرثي له؛ فيشاركه مصابه. يعضد هذا التصور استمراره في ممارسة هذه العملية الفنية، عملية التردد بالشكوى- من طريق الدعاء- على أذن المتلقي، إذ قال: ولاقى الفنا. ولاقى الرّدى. وتسلمه حال التلطف في العتاب إلى التغير النفسي، بما ينشر على الألفاظ ظلاً من الشجي والشجن، وبما يشي بالصيرورة إلى حالة حادة من الاغتراب النفسي. وقد أسلمته هذه الحالة مثلاً إلى الشعور بتنكر الدهر له، وتغيره تجاهه وذلك كناية عن لإحساس بالوحشة:

فها أنا ذا دارى بأجبال طيءً *** طريداً ولو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوِّي ظالماً عن مهاجري *** رضيتُ بما شاء الإله وقدَّرا
وأسلمني قومي لغير جناية *** كأن لم يكونوا لي قبيلاً ومعشرا
فإن أُلْفَ في دار بأجبال طيءٍ *** وكان معاناً من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أُرى متغرباً *** لحى الله من لاحى عليه، وكثرا
لحى الله قتل الحضرميين وائلا، *** ولاقى الفنا من السنان الموفرا
ولاقى الردى القوم الذين تحربوا *** علينا، وقالوا قول زور ومنكرا
فلا يدعني قوْمٌ لغوث بن طيءٍ *** لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرّا
فلم أغزهم في المعلمين، ولم أثر *** عليهم عجاجاً بالكويفة أكدرا (26)

ونلحظ هنا أن الشاعر قد لجأ إلى النص على أن الدهر أشقى النفس بالأهل المتنكرين له، وأنه لجأ إلى تكرار مقاطع بعينها؛ إعلانا منه عن خيبة الأمل؛ ففضلاً على تكرار الصيغ الدعائية تراه قد كرر معنى يوحي بخيبة الأمل سبق النص عليه إذ قال: "متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا؟"، وعادها هنا فقال: "فما كنت أخشى أن أرى متغرباً." إنه يعض بنان الندم على تلك الأيام التي كان فيها حسن الظن بقومه.
ومكانته هو فيهم لقد انقلب مرة أخرى من مجرد معاتب متلطف في عتابه إلى ما يشبه الثورة المتمردة في وجه القبيلة حتى صارت الكوفة التي يحلُّونها "كويفة"، وللتصغير بلا شك دلالته البالغة في الرد على الزعم بأنه كان يحن إلى الكوفة كوطن.
أقول: تعلو منه نبرة العتاب إلى حيث تصير تشهيداً بكل بطون طيّء، ظناً منه أنهم نكصوا عنه، وتنكروا لكل فعاله وماضيه المجيد فيهم، ولذلك تراه ينتخب من هذا الماضي صوراً توجب له عليهم حق الحماية فضلاً على عدم الخذلان، وذلك بتوظيف هذه الصور على نحو فني، يسعى به إلى غايته، كما يتخذ من هذا الاستفهام التقريري بحدته وصرامته مطية فاعلة في هذا المجال: ألم ك فيكم ذا الغناء ؟. ألم تذكروا يوم العذيْب؟
والقيمة في هذا الاستفهام تتكشف بصورة أوضح حين تراه يضع فعالهم أمام فعاله التي يقررها هذا الاستفهام؛ إذ بعد هذا التقرير يقول: " وتنسوني يوم. " ولأن مضمون هذه اللفظة هو سر شقائه وإحساسه بخيبة الأمل تراه قد كررها في معاتبته عدي بن حاتم إذ قال له: "أتنسى بلائي؟"

فبلّغ خليلي إن رحلت مشرّقا *** جديلة والحيين معْنا وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طيء *** ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا ؟
ألم تذكروا يوم العذيب أليَّتي *** أمامكم ألا أرى الدهر مدبرا؟
وكري على مهران والجمع حاسِرٌ *** وقتلي الهمام المستميت المسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم أُلَمْ *** ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا *** بصفين في أكتافهم قد تكسرا (27)

وبعد أن ينشر على الأسماع صوراً بطولية مما طوته صفحات ماضيه في قومه وتناساه "على ما زعم" الأقربون أخذ يفرد عدي بن حاتم بالخطاب العاتب الذي يترجم الإحساس بالضياع، وتراه في هذا الضياع يغري بالألفاظ الفخمة ذات الصلة بمصابه، وعلى رأس هذه الألفاظ نجد لفظة "جزاء" التي يكررها في هذا المقطع ثلاث مرات.
ويلمع في الذهن افتراض أن الشاعر أراد لهذا العتاب أن يكون تَشهيداً وفضحاً ومما قد يؤيّد ذلك أنه يذكر عدي بن حاتم بموقف لولاه ما كان الشيخ والسيد، وذلك إذ زاحمه عائذ بن قيس الحزمري الراية بصفين، حتى كادت تكون للحزمريين كثيري العدد يومها، لولا وثبة عبد الله بن خليفة (شاعرنا) والشاعر يثري الموقف ويجعله حياً بأن يجعل لصيغة الفعل حضوراً واضحاً:
(أتنسى بلائي، دافعت عنك القوم، كنت أنا الخصم، فولوا وما قاموا، نصرتك إذ خام القريب، وأبعط البعيد.)
وترى الصياغة من الفعل هنا إلى جانب ذلك ترسم التنامي في العتاب، وتجسده، حتى يصير فضحاً وتعبيراً، ويلجأ الشاعر إلى صيغة المصدر: (رفضي خذلاني نصراً) ، وذلك بهدف حصر ذهن المخاطب في الحدث بحيث لا يشتت طاقته الذهنية في شيء سواه من زمن أو غيره:

جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتمٍ *** برفْضي وخذْلاني جزاءً موفَّراً
أتنْسى بلائي سادراً يا ابن حاتم *** عشية ما أغْنّتْ عديّك حزْمرا ؟
فدافعتُ عنك القوم حتى تخاذلوا *** وكنت أنا الخصم الألدّ العَزَوَّرَا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما *** رأوْنِي ليثاً بالأَبَاوة مخْدَرا
نَصَرتُكَ إذ خام القريب وأبعط الـ *** بعيد، وقد أفردْتَ نصراً مؤزرا
فكان جزائي أن أجرَّدَ بينَكُم *** سجيناً، وأنْ أُولى الهوانَ وأوُسرا (29)

ويلجأ الشاعر إلى اللوم والتقريع لكثرة ما منَّي عدي ووعد فلم يتم شيئاً من وعوده، وخلَّف الشاعر في كربة الشعور بالغربة، يتجرع أحاسيس التنكُّر له كؤوساً مترعة، وذلك يشير إلى وقوع الشاعر في دائرة الاغتراب النفسي بعد الغربة المادية التي فُرِضَت عليه، ولذلك تراه يقدم لك صورته في هذه الغربة المضاعفة، فإذا هو يرى نفسه غريبةً على ذاته إذ يعيش حالة ليست تناسب أمثاله، فماضيه ما كان شفيعاً له في حاضره:

فأصبحت أرعى النِّيب طوراً، وتارة *** أهَرْهِرُ إن راعي الشُّوَيْهات هرهرا
كأني لم أركبْ جواداً لغارة، *** ولم أترُك القرْن الكميَّ مُقطَّرا
ولم أعترض بالسيف خيلاً مغيرة *** إذا النّكس مشَّى القَهْقَرى، ثم جرجرا
ولم أستَحثَّ الركض في إثر عصبة، *** مُيَمِّمَة عليا سجاس وأبهرا
ولم أذعر الأبلام منىِّ بغارة *** كورد القطا، ثم انحدرت مظفرا
ولم أُرَ في خيل تطاعن بالقَنَا *** بقزوين، أو شَرْوين، أو أَغْزُ كُنْدرا
فذلك دهرٌ قد زال عني حميده، *** وأصبح لي معروفُه قد تنكَّرا (30)

وكأني بالشاعر قد لمس أن ذلك هو مقطع الختام لرسالته الموجهة إلى سيد قومه، فهو لذلك يشعل فنيته، ليكون عميق الأثر بالغ الهدف؛ إذ ينتفع بالأسلوب الخبري الذي لا يراد به ظاهر الخبر بقدر ما يسعى إلى جلب الشفقة والرثاء له:
فأصبحت أرعى النيب! كأني لم، ولم، ولم.
والانكسارة النفسية للشاعر تكشفها حالة الإحساس بخيبة الأمل؛ فلغير الحالة التي آل إليها خلق الفرسان ذوو البطولات الإسلامية من أمثاله، لكن إهمال الأهل له صيره إلى ما لا يحب.
والهرهرة بالغنم- التي صارت كل ما يناط به في حاضره- هي دعوتها إلى الشراب، هذه هي كل مهمة فارس الأمس ! وكذلك تكون مهمة أمثاله حين تنقلب الموازين، أو تتبدل المعايير في أي زمان، والآخذ بالنفس هنا هو ذلك التصغير للشياه: (الشويهات) بل الآخذ بالنفس أكثر وأكثر هو هذه الصياغة المنتقاة بإحكام يتناسب وحجم الآلام؛ إذ يريك الشاعر أنه قد غدا ذليلاً لمن ؟ لراعي الغنم، لا بل لراعي شويهات، والأدهى من كل ذلك أن يصير هو طوع أمر راعي الشويهات هذا معلقاً بنظرة منه، حتى إنه ما أن يهمّ الراعي بالهرهرة إلا ويكون الشاعر قد هرهر قبله؛ طاعة لأمره وتحبباً إليه! وتركيب الجملة بعد هو الذي يوحي بذلك وأكثر منه فهو يقول:

"وتارة أهرهر إن راعي الشُّوَيْهات هَرْهَرا"

وفي ذلك ملحظان هامان، أما أولهما فيتمثل في مجيء جملة الجواب قبل جملة الشرط. وأما الثاني فهو بناء الجواب لا على مجرد حدوث هرهرة الراعي، ولكن على مجرد همّه بذلك!
يستفاد ذلك من كون أداة الشرط هاهنا هي "إن"، كما يستفاد من إدخاله معمول فعل الشرط على الأداة. وتذكرنا الأبيات بنسيجها هذا- مع الفارق في الغاية- بقول امرئ القيس الشهير:

كأني لم أركب جواداً للذَّةٍ، *** ولم أَتَبطَّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسْبأ الزِّق الرَّويّ، ولم أقل *** لخيلي كري كرة بعد إجفال (31)

ولا نترك الأبيات السابقة قبل أن نشير إلى ما في قوله: "فذلك دهر زال عني حميده" من نص على الشعور بمدى ثقل لحظات الحاضر على نفسه، وإحساسه بانفراد المصائب والأرزاء به وحده من دون الناس أجمعين، وذلك أنه لجأ إلى تنكير كلمة "دهرٌ" ليكون هذا التنكير رسول إيقاظ وتنبيه، كما قدم الجار والمجرور "عني" على الفاعل إشعاراً بأن الدهر لم يعد مشغولاً بسواه.
وهكذا المحزونون أبداً يرون أن مصائبهم فوق مصائب الناس، وأشد منها وأن الدهر قد أنشغل بهم عن الناس، ولذلك تراه أكثر من هذا الأسلوب، إذ قال: "وأصبح لي معروفة قد تنكرا" كما قال: "وكنت المضاع".
وكما سبق أن ألمعنا فإن الأساس في القصيدة كلها هو اللهفة إلى الأهل ودفء العيش بينهم في المُهاجَر، ولذلك تراه يختم قصيدته بإعلان أنه لا يستغني عنهم وإن خذلوه، ولا يتبرأ منهم وإن أضاعوه، وتناسوه:

فلا يبْعُدَن قومي، وإن كُنْتُ غائباً *** وكنتُ المضُاع فِيهِم والمَكفَّرا
ولا خَيْر في الدُّنْيا ولا العَيش بعدهم *** وإن كنْتُ عنهم نائي الدار مُحْصرا (32)

لقد كان الشاعر قد أوهمنا بقدرته على التفلُّت من الإحساس بالحاجة إلى الأهل ما خذلوه ورفضوه، حين قال عن حجر وأصحابه:

وما كنت أهوى بعدهم متعللاً *** بشيء من الدنيا ولا أن أعمراً


فإذا بهذا الختام يكشف أمره كله، وأنه للقبيلة وحدها يحن: (فلا يبعدن قومي) ، وبسببها قال الرثاء. رثا حجر وأصحابه.
والقصيدة كما ترى طويلة رائعة، وجاءها ذلك من التفرغ الذي عاشه، فأتاح له فرصة للتجويد والتنقيح، واستغلال بعض صور الماضي كمفردات فنية بالغة الأثر، كما أنها أي القصيدة ناطقة بعمق التأثر الديني الذي تكشفت لنا أبعاده في الألفاظ والمعاني والصور الإسلامية التي كانت من أبرز أسس تكوين القصيدة فنياً وفكرياً، يواكب ذلك انتفاع ببعض صور الموروث؛ انطلاقاً من الارتكاز على الشعور القبلي الذي لم ينبتر تماماً من نفس الشاعر، شأن أغلب شعراء مرحلة التحول، وهو ما جعل الدكتور يوسف خليف يعلن أن الشاعر في هذه القصيدة قد استطاع أن ". ينتقل بالشعر الكوفي هذه الخطوة الواسعة من مجاله الضيق. إلى هذا المجال الفسيح عن طريق المزج الفني الرائع بين الصور القديمة الموروثة، والصور الإسلامية الجديدة."(33)
وتستمد القصيدة فنيتها أيضاً من ذلك كله ومن كون أفقها الفكري قد كان خليطا من الجانب السياسي والاجتماعي والديني، ومن ذلك النسق العاطفي المضطرم والمضطرب في آن؛ إذ جمع فيها الشاعر بين إعلان السخط والرضا والغضب، ورفض القبيلة وإقباله إليها، وإعلانه الاتحاد بها، والثورة في وجه سيد القبيلة وتعييره وفضحه، إلى إعلان الشعور بالتنكر والتحول إلى.. و...
ولا أراك تسرع بالحكم على القصيدة بالتشتت، بل أراك تقرر معي أن ذلك هو الصدق الفني الذي جلب إليها الجودة من كل باب، إذ الغريب أبداً يعيش حالة التململ والاضطراب، والتموج النفسي، فهي صورة لما كان يعتمل في نفسه باعتباره غريب، يشعر أن ستوافيه المنية قبل العودة، فالنوازع تكون بلا شك في نفسه متناوحة مصطرعة، يقتل بعضها بعضاً، فضلاً على أن الشاعر إذ ذاك لا يتحكم في خط سيرها؛ إذ قصاراه أن يصبها في قالب شعري معبر، يحمل حرارة الوجدان وينبض بصدق اللهفة إلى الأحبة، من تُخُرِّم منهم ومن عاش.


د. شوادفي أحمد علام

متابع باستمرار
08-09-2009, 10:03 PM
فلا يبْعُدَن قومي، وإن كُنْتُ غائباً *** وكنتُ المضُاع فِيهِم والمَكفَّرا
ولا خَيْر في الدُّنْيا ولا العَيش بعدهم *** وإن كنْتُ عنهم نائي الدار مُحْصرا

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

المظهري اللامي
10-09-2009, 06:14 AM
هلاااااااااااابك سعيد بمرورك

المظهري اللامي
10-09-2009, 06:14 AM
هلاااااااااااابك سعيد بمرورك